حكاية شفاء
اليوم سأروي لكم حكاية
رأيت فيها
كيف أن للبصر في القلب أثرا
وأن من قال أن العين رسول القلب
لم يخلو قوله من صواب
غير أنه ليس رسولا فحسب
بل حارس أيضا
وأدركت أيضا
كم تجني أبصارنا على قلوبنا
و كم تدميها
وكم ترديها
فلا نعي عظم تلك الجناية..
ولا ندريها ..
ولا نستشعرها ..
واستحضرت حينها
ما كان يتحدث عنه ابن الجوزي
وهو يشرح لنا أن الله إنما وهبنا هذه الأبصار
لنرى آياته في الكون
فنستدل بعظمة المخلوق على عظمة الخالق
هذه هو المعنى الأساسي للبصر
فإذا ما أشغلنا هذا العين
بغير ما خُلقت له
سلب الله ذلك المعنى الجميل
فأصبحنا كما قال ابن الجوزي :
( فيرى وكأنه ما رأى ، و يسمع كأنه ما سمع ، و القلب ذاهل عما يتأدى به لا يدري ما يراد به ، لا يؤثر عنده أنه يبلى ،و لا تنفعه موعظة تجلى ، ولا يدري أين هو!!)
يالله
كم من قلوب ( لا تدري أين هي!! )
اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان
حسنا لا أريد أن أطيل
بدأت الحكاية
حينما كلفت بمتابعة نشاط الطالبات في إحدى الجامعات
حيث تواصل معي هاتفيا
ما يزيد على 100طالبة
وكانت طبيعة العمل تتطلب أن يكون التواصل جديومختصر
لكن في غمرة تلك الاتصالات
حدث أمر غريب
استقبلت اتصال تلك الفتاة في شهر جمادى الأولى من 1432هـ
كان صوتا مهيبا.. وقورا.. حييا
وما أجمل أن تجتمع الهيبة و الوقار والحياء
في مثل هذا الزمان
ومع هذه الثلاثه
ثمة مسحة تفاؤل جميل كانت تكسو صوتها .
والله ما ظننت أن تجتمع كل تلك المعاني فيصوت قط
صوتها بإنكسار شديد
سألتها عن اسمها ؟!
قالت: اسمي شفاء
حاولت أن أبدو معها.. كما أنا مع زميلاتها
غير أن فراستي في أمثالها لا تخيب
و كنت أثق أن هذا الوقار, وذلك الحياء, وتلك المسحة التفاؤلية
خلفها (سبب خفي)
أخبرتها بالكتاب الذي ستجري عليه البحث المطلوب
وقمت بإرسال الكتاب إلى بريدها.
أنهيت المكالمة
ثم شغلتني ارتباطاتي الأخرى
ونسيت الأمر
وبعد أسبوعين
عاد ذلك الصوتتارة أخرى .. فلما سمعته
قلت: شفاء؟!!
قالت: نعم ..شفاء
- بدا أنها لم تكن تتوقع أن أتذكر صوتها منبين زخم تلك الأصوات -
قلت : نعم يا صغيرتي .. ماذا لديك ؟
قالت:اتصلت لأعتذر عن حيث لن أستطيع تسليم النشاط هذا الأسبوع.
قلت: لا بأس .. هذا وقت اختبارات الشهر..
مازال أمامك أسبوعين آخرين للتسليم .
قالت: لا يا أستاذة .. هذا الأسبوع لا يوجد لدي أي اختبار
لكنني لا أستطيع قراءة الكتاب حتى تفرغ شقيقتي.
قلت: وما علاقة شقيقتك بالأمر.
قالت: يا أستاذة هند, الكتاب الذي بعثتي لي به على البريد
كان بتنسيق pdf .
قلت: أعرف ذلك لأن الكتاب يجب أن يكون موافق للمطبوع.
أردفت هي - بنفس الحياء وذات الوقار - :
لكن البرنامج الذي لدي في الحاسب لا يقرأ هذا التنسيق
أستاذة هند .. أنا كفيفة
أستاذة هند .. أنا كفيفة
أستاذة هند .. أنا كفيفة
شعرت بصداع شـــــــــــــــديد
واستحضرت كل ما كان يقوله إبن القيم
عن جناية البصر على القلب
عن جناية البصر على الوقار
عن جناية البصر على الحياء
لم تكن شفاء هي أول كفيفة أعرفها
فقد درست القرآن
على يد معلمة كفيفة رائعة
لكن تلك الفتاة وهبت ما لم يوهب غيرها
تمنيت لو استطعت أن أنقل لكم ذلك الصوت الحيي الوقور
لعلكم تدركون ما أدركت
بقيت مذهولة لثوان
فأيقظني صوتها
تنبهت وقلت :
لا باس سأعيد إرسال الكتاب بالتنسيق الذي أردت ياشفاء
حاولت هي ثنيي عن ذلك .. مراعاة للأمانة
كانت حييه .. تقيه
تأبى أن تحصل على غير ما حصل عليه زميلاتها
فأخبرتها أني حريصة على أن أعدل..أكثر منها
ثم بعثت لها نفس النموذج الذي بعثته لصديقاتها
وكان خطأ آخر مني
كان النموذج يحوي جدولا
وشفاء لا تستطيع معرفة تعبئة الجداول
ولم أتنبه أنا لذلك
إلا بعد أن وصلتني إجابة شفاء !!
بكيت بحرقة
حينما رأيت إخلاصها في الحل
بعكس بعض زميلاتها المبصرات
وبكيت على نفسي
وقد أكرمني الله بهذه النعمة فما أديتها حق شكرها
وبكيت على حالنا
ونحن عن أثر البصر غافلين
غافلــــــــــــــــــــــــين
غافلــــــــــــــــــــــــين
غافلــــــــــــــــــــــــين
أحيانا ..
يرسل الله من يعلمك أعظم الدروس.. بأقل الكلمات
للبصر في القلب جراحات
النظر إلى الحرام .. جرح
ورؤية من يفعل الحرام .. جرح
وفضول النظر المباح .. جرح ثالث
ولو أدركنا خطر هذه الثلاثة ..
لتنعمنا بكل تلك الثمرات
التي أسهب ابنالقيم بذكرها في (الجواب الكافي)

هل تريد أن تستشعر النور
وهو يغمر قلبك ؟!!
هل تريد أن يظهر أثر هذا النور
إشراقا في عينيك؟!!
هل تريد عقلا قويا منصفا
يعينك على كبح شهواتك ؟!!
هل تريد
قلبا قويا ..شجاعا .. ثابتا ؟!!
هل تريد
أن تمتلك الحكمة؟!!
هل تريد
أن يعيش قلبك سرورا وفرحة وانشراحا ؟!!
هل تريد
أن تعمر محبة الله قلبك ؟!!
هل تريد أن توقف ذلك النزف الممتد
الذي يخلفه النظر في قلبك ؟
ابن القيم يخبرنا بالطريق إلى كل هذا
أمامك آية واحدة
هي لكل ما سبق
المفتاح
وهي الشفاء ..
لكل تلك الجراح
( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ )
كتبته: هند عامر