عندما جاء الرهط (الرجال) الثلاثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتباهون بانزوائهم عن البشرية التي فطرهم الله عليها، منسلخين من متطلبات حياتهم الدنيا ومتقوقعين في أقفاص العبادة التي ابتدعوها لأنفسهم والتي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا انبثق من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لهم فيها بيان. فكان أحدهم يقوم الليل ولا ينام أبداً، والآخر يصوم الدهر ولا يفطر أمداً، والثالث الذي يعتزل النساء ولا يتزوج أحداً.
إن حال هؤلاء الثلاثة كحال الذي يضرب الأيام والشهور ليحتسب عدد الساعات في يومه من السنين، ثم يقسمها على كل فعل له في كل حين، ويستخرج منها ما نقص من الطفولة إلى الشباب حتى يبلغ من العمر نيّفاً وثمانين، ليجد أن المحصّلة الباقية هي فقط عامان، ثمّ يتساءل ما نصيب العبادة منها؟!
فالبعض يعتقد جزافاً أن العبادة الحقة هي فقط في أداء العبادات تعبداً وقياماً، متجاهلاً أن الدين الإسلامي ليس مجرد نُسُك تؤدى في دور العبادة فقط؛ وإنما هو أسلوب حياة يوازن بين متطلبات الروح والجسد. صحيح أن بعض العبادات تستلزم الفعل والوقت المعيّن، إلا أن بعضها قد تكتسب فيه أجر العبادة، ويُجزَل لك فيه العطاء والمثوبة وهو مجرد فعل روتيني وعادة يومية تؤديها. فقط .. إن احتسبتها.
فالعبادة في الإسلام تبدأ من حيث يبدأ التكوين حين تضعها في النطف اللامتناهية الصغر ثم تتغلغل في أدق تفاصيل الحياة، ومكنونات الوجود البشري. ثمّ اعتناؤك بصحتك والاهتمام بمطعمك ومشربك، والعناية بجسدك من النظافة والرياضة والتماس سبل الوقاية من الأمراض والعلاج، كلها تدخل في منظومة العبادة إذا احتسبتها لله.
واهتمامك بأسرتك والتودد إليهم والقيام على أمرهم سواء الوالدين والإخوة، أو الزوجة والأبناء، وحسن الخُلُق هو من أجلّ القربات والعبادات، إذا احتسبتها.
كذلك اختيارك للرفقة الصالحة التي تعينك على الخير. واهتمامك بالتحصيل العلمي والتدرج في مسالك الصالحين والعلوم المختلفة التي تنمي الإنسانية وتفيد البشرية هي منهج من مناهج العبادة، إذا احتسبتها.
والإخلاص والأمانة في العمل، والسعي لرفعة الوطن والتفاني في تعزيز مكتسباته، وتطوير إنجازاته والذود عن حياضه. والولاء وحسن السمع والطاعة لولي الأمر، كلها أركان تدخل في منظومة العبادة التي جعل الله لنا فيها متسعاً، تتناغم معها إيقاعات الحياة المختلفة لتشكّل لحنا تنسجم فيه ذبذبات الروح مع أفعال الجسد.