إن وسطية الإسلام هي من أبرز خصائص هذه الأمة المحمدية، وفي ذلك قال الله عز وجل (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) البقرة:143 (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)اي عدولاً شهداء . بل لا يكتفي الإسلام بهذا وإنما مع أخذه بالوسطية يحذر تحذيراً شديداً جداً من الانحراف إلى أحد الاتجاهين: الغلو أو التقصير. او مايسمى بالافراط او التفريط . والدليل على أن سياق الآية يفيد هذا المعنى أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الوسطية سبب لتكليف هذه الأمة بالشهادة على الأمم الأخرى يوم القيامة ففي الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلميجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب. فيسأل الله تعالى أمته هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقول تعالى: من شهودك يا نوح على أنك أبلغتهم؟ فيقول نوح عليه السلام : محمد وأمته) لأن امة محمد تؤمن بجميع الأنبياء، ، قال صلى الله عليه وسلم فيجاء بكم فتشهدون ). ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ).
أخي المسلم : الغلو في الدين آفة قديمة في جميع الأمم السابقة ، وقد كانت هذه الآفة الخطيرة سببا لهلاكها من أجل ذلك جاءت الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية محذرة من هذه الآفة . ومبينة ما يترتب على الغلو من أضرار .. قال تعالى ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ } (171) سورة النساء فهذه الآيه فيها نهي لأهل الكتاب عن الغلو في الدين، وكل خطاب موجه لأهل الكتاب في القرآن الكريم بأمر أو نهي فالمقصود به هذه الأمة لأنها الامة المخاطبة بهذا الكتاب أصلاً، فإذا نهى الله اهل الكتاب عن الغلو فنحن منهيون عنه من باب أولى. بل كان النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره يلتزم الرفق واليسر، حتى لما أمر ابن عباس أن يلتقط له حصيات رمي الجمرات (في الحج ) بـمنى ، قال له: (مثل حصا الخذف، وإياكم والغلو! فإنما أهلك الذين من قبلكم غلوهم في دينهم) تأمل هذا الحديث!! قال لـابن عباس : (مثل حصا الخذف)اي اللتقط لي بحجم حصا الخذف الذي هو تقريبا بقدر حبة الحمص او الفول الصغيرة، وأصل الخذف: أن تضع حصاة في النبل وترميها ، فالغلو هنا في ماذا؟ في جمع الحصا !! ثم اوصى ابن عباس بتلكم الوصية العظيمة (واياكم والغلو) لماذا يارسول الله؟؟ فقال له لانه سبب لهلاك الامم السابقة، وايضا في الحديث الصحيح( انه ذهب ثلاثة نفر إلى بيوت النبي عليه الصلاة والسلام يسألون عن عبادته، فلما سمعوا بعبادة الرسول عليه الصلاة والسلام كأنهم تقالوها، فقالوا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر له ما تقدم من ذنبه)!. ماذا يعني هذا الكلام؟ يعنون به أن رسول الله عبدلله أو لم يعبده . اجتهد في العبادة ام لم يجتهد فانه قد غفرالله ذنبه عليه الصلاة والسلام (اي وجدوها قليلة)، فماذاً يريدون؟ يريدون الغلو، لما تقللوا عبادة النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: لن ننجو إلا إذا أخذنا على بعضنا مواثيق، أو على أنفسنا عهوداً،( فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، والآخر قال: وأنا أصوم ولا أفطر، والآخر قال: وأنا لا أتزوج النساء)! قالوا ذلك لأنه لا يستقيم في نظرهم أن يدخل أحد الجنة إلا بهذا الجد!! فأول ما علم النبي عليه الصلاة والسلام جاء اليهم( فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا ، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ). كيف يخطر ببالك أن تتقلل عبادة رسولك؟ فان ذلك يدخلك في التشدد على نفسك ؛ وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أيها الناس! إن الله فرض عليكم الحج فحجوا. فقام الاقرع ابن حابس رضي الله عنه فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت رسول الله ، قال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، قال: أكل عام يا رسول الله؟ قال: ذروني ما تركتكم، إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم) ( اي معناه لو قلت: نعم، لوجبت عليكم كل عام، ولما استطعتم، أي: طالما أنني لم اتكلم بالامر فاتركوا هذا السؤال )، فلا يزال العبد يتنطع حتى يحرم الله تبارك وتعالى عليه ما كان أحله له قبل ذلك. فهذا الصحابي يسال أكل عام؟ فسكت رسول الله يخشى أن ينزل الوحي (بكل عام)؛ فيصير هذا الرجل مجرماً في حق جميع المسلمين إلى قيام الساعة، كما جاء بالحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم المسلمين جرماً في المسلمين من سأل مسألة فحرمت لأجل مسألته) كانت حلالاً، كل المسلمين يستمتعون بهذا الحلال فقام شخص يسأل، فلا يزال يتنطع حتى يحرم الله ذلك الحلال، فيحرم المسلمون جميعاً منه ، كل هذا بسبب الغلو والتنطع.
والغلو في الدين له عدة أسباب ، منها :
1-الاستعلاء علي الغير بالعبادة : أكبر آفات الغلو أن ينظر إلى الناس فيراهم أقل منه، يرى نفسه أنه هو المسلم الوحيد، وكل من عداه كفره، وأسوته في ذلك التصرف والمنهج جدهم الأعلى ذو الخويصرة الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وقال: (يا محمد! اعدل، فإنك لم تعدل. قال له رسول الله : ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل أنا؟!. ثم تولى الرجل، فقال رسول الله: يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية). ومعنى قوله: يخرج من ضئضئ هذا، أي من أصله ونسله، والنبي صلى الله عليه وسلم بهذا القول يخاطب أبا بكر ويخاطب عمر ويخاطب علياً ، ويخاطب عثمان ويخاطب كل الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين يقول: أيها العباد! إنه يخرج من أصل ونسل هذا رجال يعبدون الله أكثر مما تعبدون! ويصلون أكثر مما تصلون! ويصومون أكثر مما تصومون! يقرءون القرآن أكثر منكم! ، لكن ما نفعتهم هذه الصلاة، ولا كثرة الصيام، ولا قراءة القرآن ، قال عليه الصلاة والسلام: (يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية) أرجو أن تتأملوا هذا التشبيه..! سهم يخرج من الرمية بهذه القوة، كم تكون سرعته؟! ليته إذ خرج من دينه خرج ببطا، يمشي على مهل، لكنه يخرج من دينه بأقصى سرعة! فأين صلاته؟ وأين صيامه؟ وأين قراءته للقرآن؟! أين ذهبت؟! مع أن المفروض أن أمثال هذه العبادة تثبت العبد على دين الله، لكن ما نفعتهم، لماذا لم تنفعهم؟ بسبب الغلو الذي أخرجهم من الدين والجراة على عباد الله حكاما ومحكومين .
2-قله التفقه في الدين : تجرأ بعض الناس علي إصدار الأحكام من خلال نظرتهم غير المتعمقة في بعض الآيات القرآنية ، أو الأحاديث النبوية دون علم ببقية النصوص اوالاقتصار على القراءة في كتب معينه دون غيرها مما يؤدى ألي التعصب الذي يعمى ويصم ، مع أن كل إنسان يؤخذ من قولة ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ،ثم يتبع الرأي الذي يشهد له الدليل من كتاب الله وسنة نبيه الصحيحة ،
3-منع حرية التدين : منع حرية التدين ، من الأسباب الرئيسية في انتشار الغلو والتطرف ، لأن الناس فيهم تدين بالفطرة ، حتى الفاسق منهم لا يرضى المساس بحرمة الدين . وإن هذا المنع يتخذ طرقا ووسائل مختلفة ، والضغوط النفسية علي الشباب من أكبر أسباب انتشار الغلو ، إن الغلو يعشش وينمو في مثل هذه الأجواء "المشحونة" ومن تتبع نشأة بعض الفرق المغالية والتي في منهجها غلو في هذا العصر يعلم ذلك .
4-التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر: ويقينا أن هناك من يحاول ان يفرض رأيه فقط ويرفض اراء الاخرين ، ويزداد الأمر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالقوة وإلزام جمهور الناس بما لم يلزمهم الله به: تقول عائشة رضي الله عنها عن رسول الله انه( ماخير بين امرين الا اختار ايسرهما مالم يكن اثما ).
5- التشدد في غير موضعه : ولما كان التشدد أحد أهم مظاهر الغلو في الدين ، فإنه يكون أعظم اذا كان في غير زمانه ومكانه ، كأن يكون مع قوم حديثي العهد بالاسلام أو حديثي عهد توبة ، أو في غير دار الاسلام وبلاده الاصلية ، فهؤلاء ينبغي التساهل معهم في المسائل الفرعية والأمور الخلافية وتصحيح عقائدهم أولاً كما قال تعالى( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ )التوبة9 ،و كما جاء في حديث رسول الله الذي رواه الامام مسلم في صحيحه في وصيته لمعاذ بن جبل لما أرسلة إلى اليمن قال له : ( إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله , وأني رسول الله . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة . فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم . فإن أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم , واتق دعوة المظلوم , فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ).
6-النظرة المثالية للمجتمع :ان من مظاهر الغلو ان ينظر المرء الى المجتمع وأفراده نظرة مثالية ، وانه ينبغي ان يكون خاليا من المعاصي ويسوده الحب والمودة والطاعة ، وهذه نظرة مثالية وغلو في التصور وبعد عن الواقع ، وقد كانت المعاصي والذنوب في كل الأمم وفي اتباع الرسل فهي فيمن دونهم من باب أولى ، وان كل ابن آدم خطاء كما قال رسول الله.
هذه بعض أسباب الغلو في الدين وصلى الله على محمد
وعلى اله وصحبه وسلم .