السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدَّى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد:

فيا عباد الله، اتَّقوا الله تعالى وأنِيبوا إليه، واثبتوا على دينه واستقيموا إليه؛ فإن دين الله واللهِ دين الحق ووسيلة الصلاح والإصلاح في الدنيا والآخرة، واحذروا الزيغ والضلال عن الدين؛ فإن في ذلك فساد الدنيا والدين بل وفساد الآخرة، واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن وإن الفتن بالمعنى العام: كل ما يصدُّ عن دين الله من مال، أو أهل، أو ولد أو عمل، يقول الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا[التغابن: 15-16] .
أيها المسلمون، اتَّقوا فتنة ينتشر شرُّها وفسادها إلى الصالحين كما أصابَ الظالمين، ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[الأنفال: 25]، احذروا فتنة العقيدة الباطلة والآراء المنحرفة والأخلاق السافلة، احذروا كل فتنة في القول أو في العمل؛ فإن الفتن أوبئة فتَّاكة سريعة الانتشار إلى القلوب والأعمال، إلى الجماعة والأفراد فتصيبُ الصالح والطالح في آثارها عقوبتها .
عباد الله، لقد حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّته من الفتن فقال صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم: يُصبح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا ويُمسي مؤمنًا ويُصبح كافرًا، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا»(1)أخرجه مسلم .
إنها فتن مظلمة ليس فيها نور، إنها كقطع الليل المظلم تُؤثِّر في عقيدة المسلم بين عشيّة وضحاها: يُصبح مؤمنًا ويُمسي كافرًا أو يُمسي مؤمنًا ويُصبح كافرًا؛ وذلك لأنها فتن قويّة تَرِدُ على إيمان ضعيف أضعفته المعاصي وأنهكته الشهوات فلا يجد مقاومة لتلك الفتن ولا مدافعة فتفتكُ به فتكًا وتُمزّقه كما يمزق السهمُ رميَّته .
عباد الله، إنَّنا في هذا العصر بما فتح الله علينا من الدنيا فتداعت علينا الأممُ من أجلها فاختلطوا بنا كفّارًا ومنافقين وفاسقين ومُفسدين، إننا بهذا الفتح الدنيوي لعلى مفترق طرق وفي دور تحوّل، نرجو الله - عزَّ وجل - ألا يكون تحوّرًا .
فيا عباد الله، عليكم بدنيكم، على دينكم فاثبتوا ولطريق نبيّكم - صلى الله عليه وسلم - وسلفكم الصالح فاسلكوا، يقول الله تعالى في كتابه: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]، فهذه - عباد الله - وصية الله تعالى إليكم أن تتَّبعوا صراطه المستقيم وألا تتَّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله وتجترفكم الأهواء .
أسأل الله لي ولكم أن يرزقنا جميعًا اتباع صراطه المستقيم .
أيها الناس، إننا نسمع ونُشاهد في كل وقت فتنًا تترى علينا بدون فتور أو ضعف؛ لأنها وللأسف تجد مكانًا مُتّسعًا ومربعًا مرتعًا، فتنًا تُوجب الإعراض عن كتاب الله وعن سُنة رسول الله عن العلم بهما وعن العمل، فتنًا تتوارد لا أقول من هناك فحسب ولكنها من هناك ومن هاهنا، من أعدائنا ومن بني جلدتنا .
إننا نسمع مثلاً مَن يدعو إلى اختلاط النساء بالرجال وإلغاء الفوارق بينهم إما بصريح القول أو بالتخطيط الماكر البعيد والعمل من وراء الستار وكأن هذا الداعي يتجاهل أو يجهل أن دعوته هذه خلاف الفطرة والجبلَّة التي خلق الله عليها الذكر والأنثى وفارَقَ بينهما خلقةً وخُلقًا، كأن هذا الداعي يتجاهل أو يجهل أن هذا خلاف ما يهدف إليه الشرع المطهّر من بناء الأخلاق الفاضلة والبُعد عن الرذيلة .
فلقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يُوجب بُعد المرأة عن الاختلاط بالرجل، فكان صلى الله عليه وسلم يَعزل النساء عن الرجال في الصلاة ويقول: «خير صفوف النساء آخرها وشرّها أوّلها»(2)، لماذا يقول هكذا النبي صلى الله عليه وسلم ؟ لأن أول صفوف النساء أقربُ إلى الرجال من آخرها فكان شرّها، وآخرها أبعدُ عن الرجال من أوّلها فكان خيرها .
إذًا، نأخذ من هذا الحديث قاعدة إسلامية شرعيَّة وهي: أنه كُلَّما ابتعدت المرأة عن الاختلاط بالرجال فهو خيرٌ لها وكلَّما قربت من ذلك فهو شرٌ لها، هكذا قال المعلّم صلى الله عليه وسلم، فيأتي هؤلاء الدعاة الذين بَهَرتهم حضارة الغرب الزائفة فيدعون إلى اختلاط النساء بالرجال إما بصريح القول وإما بالتخطيط الماكر البعيد .
نسأل الله أن يجعل كيدهم في نحورهم، وأن يُفسد عليهم أمورهم، وأن يُحق الحق بكلماته؛ إنه جوادٌ كريم .
أيها المسلمون، كأنّ هذا الداعي إلى اختلاط النساء بالرجال يتجاهل أو يجهل ما حصل لأمة الاختلاط الذين بهروه والذين اغترَّ بهم كأنه يجهل أو يتجاهل ما حصل لهذه الأمة المدمَّرة من الفساد والانحطاط: انحطاط الأخلاق وانتشار الزنى وكثرة أولاد الزنى حتى أصبحوا يتمنَّون الخلاص من هذه المفاسد فلا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً .
إننا نسمع مَن يدعو إلى سفور المرأة وتبرّجها وإبراز وجهها ومحاسنها وخلع جلباب الحياء عنها، يُحاول أن تَخرج المرأة سافرة بدون حياء وكأن هذا الداعي يَجهل أو يَتجاهل أن الحياء من جِبِلّة المرأة التي خُلِقَتْ عليه وأن الحياء من دينها الذي خُلقت له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحياءُ من الإيمان»(3)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن مِمَّا أدركَ الناسُ من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت»(4)، كأن هذا الداعي إلى السفور يجهل أو يتجاهل ما يُفضي إليه السفور من الشر والفساد واتِّباع السفهاء للنساء الجميلات ومحاولة غير الجميلة أن تُجمِّل نفسها؛ لئلا تبدو قبيحة مع مَن يمشي من الجميلات في السوق، فيبقى مجتمع النساء الإسلامي مَعرضَ أزياء .
ومن عجب أني قرأت لكاتب من دعاة السفور كلامًا ساقَ فيه حديثًا ضعيفًا قال عنه هذا الكاتب الجاهل: إنه حديث صحيح متّفق على صحته وهذا الحديث رواه أبو داوود «أن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رِقاق - أي: خفيفة - فأعرض عنها وقال: يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت سنَّ المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفَّيه»(5)، ولكن هذا الحديث ضعيف وأول مَن ضعَّفه مَن رواه وهو أبو داوود؛ حيث قال رحمه الله: إن خالد بن دريك الذي رواه عن عائشة لم يُدرك عائشة .
إذًا: فهذا الحديث منقطع السند ولا يمكن أن يكون الحديث صحيحًا ولا حسنًا إلا إذا اتَّصل سنده ووثِّقت رواته وهذا الحديث منقطع السند ورواته ليسوا موثقين كلهم بل منهم مَن طُعِن فيه .
إذًا: فلا يجوز للإنسان أن يَحتجّ بهذا الحديث ولا يُمكن أن يُوصف هذا الحديث بالصحة مع أنه فيه سببين من سبب الطعن في الحديث وهما: انقطاع السند وضعف بعض رواته .
ونسمع أيضًا من الفتن ما يُروّجه أعداء الإسلام من الدعاية الكاذبة العارمة لتفخيمهم وتعظيمهم وترويج بضاعة مدنِيّتهم الزائفة وآرائهم الزائغة وحضارتهم المنهارة، يروِّجون ذلك باسم التقدم والرقي والتطور والتثقيف العالمي وما أشبه ذلك من العبارات الفخمة الجزلة التي تنبهر بها عقول كثير من الناس فيصدِّقون بما يُقال ثم يلهثون وراء هؤلاء الأعداء المروِّجين بالتقليد الأعمى والتبعيَّة غير العاقلة وغير المعقولة بدون تأمُّل ولا نظر في الفوارق والعواقب، ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ [القلم: 35]، ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [الصافات: 154] .
أيها المنخدع بحضارة هؤلاء، وأستغفر الله أن أقول إنها حضارة ولكنها واللهِ حقارة، فرويدك - أيها المنخدع - رويدك؛ إن كل شيءٍ نافع فيما يدعي هؤلاء أنه حضارة فإن في دينك ما هو أنفع منه ولا يمكن أن يوجد شيء نافع للأمة إلا وفي الدين الإسلامي ما هو أنفع منه .
فرويدك أيها المنخدع، ارجع إلى دينك، ارجع إلى ربك، تجد الخيرَ كله في دينك وتجد الشَّرَ كله فيما يخالف دينك .
أيها المنخدع، لا تغرنَّك دعايتهم، لا تغرنَّك دعايتهم، ارجع إلى كتاب الله، ارجع إلى سنَّة رسول الله، ارجع إلى سيرة خلفاء نبي الله، ارجع إلى سلف هذه الأمة تجد الخير كله فيما ترجع إليه .
أسأل الله أن يجعل شعبنا شعبًا منطلقًا من دينه محكِّمًا لكتاب الله ولسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].
أيها المنخدع، ارجع إلى ذلك، ارجع إلى ما قلنا لك إن كُنت تريد الهدى لا العمى، ارجع إلى ذلك لترى ما يُحاول هؤلاء الأعداء بكل قواهم أن يصدوك عن دينك؛ لأنهم يعلمون أنك لو طبَّقته تمامًا لَمَلَكْتَ عواصم بلادهم وزلزلت أقدامهم عن أماكنها، يقول الله عزَّ وجل: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: 21] .
ولقد سمعنا أن بعضهم في هذه الأيام وبعد أن تدهورت الشيوعية قال: إننا لا نخشى من قيام الشيوعية ولكننا نخشى من قيام الإسلام بهؤلاء المتطرِّفين، ويعني بالمتطرفين: الذين اتَّجهوا إلى دين الله، وفي الحقيقة أن هؤلاء هم القوم الوسط، هم الذين يريدون أن تكون كلمة الله هي العليا .
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن أعداءنا ليُهوِّنُون هذه الفتن في نفوسنا، إنهم يجلبونها إلينا بعد أن أفسدتهم ليُفسِدُونا بها كما فسدوا كما قال ربنا عزَّ وجل: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء: 89]، ومازال الناس في عصرنا هذا يُشاهدون ويسمعون كل وقت مظهرًا جديدًا من مظاهر الفتن، كل فتنة تأتي يستنكرها الناس ويشمئزون منها حتى إذا لانت نفوس بعضهم إليها جاءت فتنة أُخرى أعظم منها، وإن السعيد كل السعادة لَمَن وقي الفتن ومَن أُبتلي بها فلْيصبر على دينه ولْيثبت .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أُمَّتكم هذه جُعِلَ عافيتُها في أوَّلها وسيصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها وتجيء فتنة فيُرقِّقُ بعضُها بعضًا وتجيء الفتنةُ فيقولُ المؤمنُ: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنةُ فيقول المؤمنُ هذه هذه»، وهذه الجملة للتعظيم؛ يعني: هذه هي الفتنة الدَّاهية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فمَنْ أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويُدخل الجنّة فَلْتأته منيتهُ وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه»(6) .
اللهم نسألك أن تقينا من الفتن، اللهم قِنَا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أَصْلح ولاة أمورنا، اللهم أَصْلح ولاة أمورنا صغيرهم وكبيرهم، اللهم أَبْعد عنهم كل بطانة سوء وأبدلهم ببطانة خير تدلّهم على الخير وتأمرهم به وتُبيِّن لهم الشر وتحذّرهم عنه .
اللهم إنا نسألك أن تُغيث بلادنا بصلاحنا وصلاح ولاتنا وصلاح وزرائهم وصلاح أُمرائهم وصلاح كل مَن يتولى لهذه الأمة أمرًا من أمورها، يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم قِنا الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ إنك جوادٌ كريم .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
يتبع