أقسام الناس بعد رمضان :
لقد انقسم الناس بعد رمضان إلى أقسام
الصنف الأول : قوم كانوا على خير وطاعة ، فلما جاء رمضان شمروا عن سواعدهم ، وضاعفوا من جهدهم و جعلوا رمضان غنيمة ربانية ، و منحة إلاهية ، استكثروا من الخيرات ، و تعرضوا للرحمات ، وتداركوا ما فات ، فلعله أن تكون قد أصابتهم نفحة من النفحات . فما انقضى رمضان إلا و قد حصلوا زادا عظيما، علت رتبتهم عند الله ، و زادت درجتهم في الجنات، و ابتعدوا عن النيران . علموا أن لا مستراح لهم إلا تحت شجرة طوبى، فاتعبوا هذه النفوس في الطاعات . علموا أن الصالحات ليست حكرا على رمضان ، فلا تراهم إلا صوما قوما ، حافظوا على صيام الست في شوال ، حافظوا على صيام الاثنين و الخميس و الأيام البيض. دمعتهم على خدودهم في جوف الليل، و عند الأسحار استغفار أشد من استغفار أهل الأوزار . .يعيشون بين الخوف و الرجاء، حالهم كما قال الله ( و الذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم و جلة أنهم إلى ربهم راجعون ).
في السنن من حديث عائشة ( قالت : قرأ رسول الله هذه الآية ، فقلت يا رسول الله : أهم الذي يسرقون و يزنون و يشرب الخمر و يخافون من الله .


فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يا ابنة الصديق ، ولكنهم أقوام يصلون و يصومون و يتصدقون و يخافون أن يرد الله عليهم ذلك ) فهؤلاء هم المقبولون ،هؤلاء
هم السابقون ، هؤلاء هم الذين عتقت رقابهم ، و بيضت صحائفهم .

فطوبى ثم طوبى لهم.
الصنف الثاني : قوم كانوا قبل رمضان في غفلة و سهو و لعب ، فلما أقبل رمضان أقبلوا على الطاعة و العبادة ، صاموا و قاموا ، قرأوا القران و تصدقوا ودمعت عيونهم و خشعت قلوبهم ، و لكن ما أن ولى رمضان حتى عادوا إلى ما كانوا عليه ،عادوا إلى غفلتهم ، عادوا إلى ذنوبهم . فهؤلاء نقول لهم : من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد فات ، و من كان يعبد الله فان الله حي لا يموت . أن الذي أمرك بالعبادة في رمضان هو الذي أمرك بها في غير رمضان . يا عبد الله يا من عدت إلى ذنبوك و معاصيك و غفلتك : تمهل قليلا ، تفكر قليلا: كيف تعود إلى السيئات ، و ربما قد طهرك الله منها .
كيف تعود إلى المعاصي و ربما محاها الله من صحيفتك : يا عبد الله
أيعتقك الله من النار فتعود إليها ؟ أيبيض الله صحيفتك من الأوزار و أنت تسودها مرة أخرى ؟ يا عبد الله : آه لو تدري أي مصيبة وقعت فيها . آه لو تدري أي بلاء نزل بك ، لقد استبدلت بالقرب بعدا، و بالحب بغضا . يا عبد الله إياك أن تكون كالتي نقضت غزالها من بعد قوة انكاثا . لا تهدم ما بنيت ، لا تسود ما بيضت ، لا ترجع إلى الغفلة و المعصية فو الله أنك لا تضر إلا نفسك :يا عبد الله إنك لا تدري متى تموت ، لا تدري متى تغادر الدنيا . فاحذر أن تأتيك منية و أنت قد عدت إلى الذنوب و المعاصي . و تذكر ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فغير من حالك ، اترك ذنوبك ، أقبل على ربك حتى يقبل الله عليك .
الصنف الثالث : قوم دخل رمضان و خرج رمضان ، وحالهم كحالهم ، لم يتغير منهم شيء ، ولم يتبدل من أمر ، بل ربما زادت آثامهم ، وعظمت ذنوبهم ، و اسودت صحائفهم ، و زادت رقابهم إلى النار غلا . هؤلاء هم الخاسرون حقا . عاشوا عيشة البهائم ، لم يعرفوا لماذا خلقوا عوضا أن يعرفوا قدر رمضان و حرمة رمضان ، ولقد سمعت و الله أحدهم يتبجح و يجاهر بالفطر في نهار رمضان . فهؤلاء ليس أمام حيلة معهم إلا أن ندعوهم إلى التوبة النصوح ، التوبة الصادقة ، و من تاب ، تاب الله عليه.

وإليك يا أخي كلمات من كلمات سلف هذه الأمة ، فو الله أن كلامهم لقليل و لكنه يحي القلوب . قال أبو الدرداء : ( لو أن أحدكم أراد سفرا ، أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ؟ قالوا: بلى . قال: سفر يوم القيامة أبعد ، فخذوا ما يصلحكم ؛ حجوا لعظائم الأمور .
صوموا يوما شديد حره لحر يوم النشور . صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور .
تصدقوا بالسر ، ليوم قد عسر ) و قال الحسن البصري : ( إن الله جعل رمضان مضمار لخلقه ؛ يتسابقون فيه بطاعته فسبق قوم ففازوا ، وتخلف آخرون فخابوا .
فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون و يخسر المبطلون )
اللهم اجعل ما نقول حجة لنا لا علينا .